لقد دأب الشاعر الجلاوي في ديوانهِ الأول – وجهان لامرأة
واحدة – على أسطرة العشق ومن ثم المروق من صلب هذه الأسطرة
إلى تخليق لغة الرفض والعصيان.
إن في عينيكِ لغة وكلام
وأساطير قديمة
وهدوء يخفي شيئاً
وبقايا جثة الصمتِ
وآثار جريمة
( من قصيدة آثار جريمة ص 4 )
وفي مقطوعة أُخرى يقول :
أُحبكِ ناراً تشبُ اندلاعاً بملء دمي
أحبكِ جمرا
هل تمنحيني من السيف خصرا ؟
أُعادي لحبكِ كل القبلة
ويصل بهِ القول إلى ( في ص 7 )
إذا زرتِ قبري سرا
تخطين قلباً عليهِ من الدمِ سطرا
تقولين فيهِ
لقد مات يوماً شهيداً لعيني
فازداد طهرا
( من مقطوعة أحبكِ طيرا )
لن يحتاج القارئ إلى كبير عناء ليسبر صدق ما نزعمهُ من كون
هذا الشاعر يمثل رفضاً وعشقاً وحزناً ، فالمفردات التي غص
بها الديوان تتمازج فيما بينها لتخلق عالم شاعرنا ، بيد
أنني لحظتُ أن اللهاف والأنطلاق في اتجاه الإيقاع المتنوع
السريع في ديوان الشعر الأول شكل حيفاً واضحاً وعلى تخليق
الصورة الشعرية ولولا ذلك لكان للصورة شأن أكثر جاذبية
وتخليفاً.
وحسب شاعرنا اقداماً وعزماً أنهُ يجترح بشاعريتهِ آفاق
الكون الشعري غير عابئ بكثير اللغط الذي يتفوه بهِ أمثالي
من قارئي القصيدة – وهو أوهن من أن يسبروا غور عمقها وأن
يرصدوا جوهر تشكلاتها ، ولا اخفي عجبي الشديد بحماس شاعرنا
وانطلاقته نحو آفاق الكلمة الشعرية.
وها انذا أعود أدراجي لأجد وعداً تحقق ، وأملاً بدأ يلوح
للعيان في الأفق ، حينما تلقيتُ وبفخر ديوان شاعرنا
الجلاوي ( العصيان ) وهو يشكل الثمرة الثانية من ثمار هذا
الحقل الأدبي (( الشعري )) وكم سعدتُ حين ألفيتني أتقرى ما
سطر بنهم فلا أجد إلا عبق العصيان وحلاوة الرفض بل
وشعريتهِ المكتنزة في حشاشات الذات.
إن لغة العصيان في (( ديوان شاعرنا الجلاوي ))-( العصيان –
رسالة المنذر )لا تكاد تبرح مقطوعة من هذه المقطوعات
(الأربع والعشرين ) مقطوعة ، ولولا أني أخشى الفتك على حد
تعبير الجاحظ لقلت أن مفرداتها ودلالاتها لا تكاد تبرح
سطراً من أسطرها أو ضفيرة من ضفائرها ، ففي مقطوعة ( العلق
) يقول (( الجلاوي )).
اقرأ سلاحكَ أو فعدْ
إنَّ الرصاص تعلَّمَ اللا انسحابْ
جنّدها سكاكيناً
فما فقهت لغير النصلِ
في رحم الترابْ
اضربْ
جهنمُ وحدها لغةُ الخطابْ.
عندما يكون الرصاص ، وهو داعي الهروب والخوف والقمع داعياً
، للمواجهة والوقوف ، وعندما تتحول الخطى إلى سكاكين ، حين
لا يقرأ العالم إلا لغة واحدة ، ولا يفقهون إلا لغة النصل
التي ستكون في رحم التراب الطاهر ، ذاك التراب الذي تتخلق
من خلاله العزائم الثابتة المؤمنة ، بكل ما هو حق ، وشرف
وكرامة عندما يعي الشرفاء أن جهنم وحدها لغة الخطاب ..
إننا نلحظ من خلال هذه التوليفة الدلالية لشاعرنا ، والتي
كونتها مفردات ( الرصاص / اللا انسحاب / جنّدها سكاكيناً /
النصل / جهنم .. وندرك غور هذه اللغة الرافضة وتناصاتها مع
اندلاقات الذات الشاعرة ، وما يستكن بأحشائها من سعرات
عاطفية تجيش بكثير من الآهات والمواجع عبر خطاب يحول
واستحالة الملح الذي نشر دلالته بالمكابدة ، واللهاف تجاه
العيش الشريف رغم تشنج الأيام وويلاتها ، وحين ينبئ
الترميز الذاتي والقرآني عبر ( سآوي ) التي قالها ابن نوح
(ع) عندما أدركه الطوفان ، بأن لاخلاص من الواقع المر إلا
بلغة الوقوف والمواجهة ، وشرعة الجهاد للبغي والأثم ، وهنا
الملح تعانقا دلالياً وتناصاً مع الثورة والشباب – كأبي
القاسم الشابي – حين يقول في قصيدته إلى طغاة العالم ما
نصه :
رويدك لا يخدعنك الربيع
وصحو الفضاء وضوء الصباح
ففي الأفق الرحب هول الظلام
وقصف الرعود وعصف الرياح
حذار فتحت الرما اللهيب
ومن يبذر الشوك يجن الجراح
فكما أن الدعة والربيع ليسا بالعاصمين من تقلب الأحوال
والظروف ، وتغير الواقع والأزمنة عند الشابي – فإن السكون
المفرط لا يعني عدم الرفض والقدرة على التمرد والمواجهة
عند الجلاوي، وهذا ما نلحظه في مواقع أخرى مما نحفظه من
موروث حين نستمع لقائل في العصر الإسلامي.
لايغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داء دويا
وفي مقطوعة "من يلغي الرفع والإعراب" ص 17 يقول الشاعر:
هل بقي التاريخ .. ياقبيلتي
نبيعه بلقمة
رصاصة
تخترق الضمير تلغي الرفع والإعراب؟
يا سيدي
تلغي لنا رجولة العتاب
إنما نتمثله عبر دلالات / نبيعه بلقمة / تخترق الضمير /
يلغي الرفع والإعراب / تلغي لنا رجولة العتاب / هو التجسيد
لرفض مقولة الإلغاء التي تمارسها شتى الظروف الضاغطةعلى
الذات الشاعرة والذات الانسانية بعموم الدلالة ـ فهل تستحق
اللقمة المغمسة في الذل كل هذه التضحية؟! تضحية بكيان
وتضحية بلغة ودين.. الخ.
وماذا بعد كل هذا الإلغاء؟ غير التلاشي والتبجح
برجولة العتاب لو كان ثمة رجولة يصدق وسمها بها وفي مقطوعة
"الخارج من القانون عليه" للشك تثب أمامنا دلالات الرفض
بصورة لا تدع للشك موطئ قدم، يقول الجلاوي:
يقرآن الدخول على جثة النص
يستأصلان له الردة الزائدة
في صدر قبلة البندقية
ما زال ينزف ملحاً من الخاصرة
ويقول أيضاً:
تناسل قومك بين الحوار الشهيد
يتيم طفلان من شفرة الصيف
الجنود..
تجذر أقدامها في التراب المخصب بالدم
هل السيف أصدق؟!
أم أم أ، نار ولايتها قاصراً
وحين التمعن في دلالات المفردات الآتية: جنة النص /
يستأصلان له / قبلة البندقية / ينزف ملحاً / المخضب بالدم
/السيف أصدق؟!
تتوشح القصيدة بهذه المفردات والتراكيب التي تكن بداخلها
لغة العصيان والرفض، فدلالة الجثة والإستئصال والنزف،
واستنال الشهيد، من شفرة السيف ـ كل هذه المفردات تلتحم
لتعزف جوقة العصيان على جسد النص الشعري، إنها بهذا الضخ
المترامي ترسم جمالية شعرية للعصيان، وضمن أدبية الإبداع
تنداح دوائرها، لتشكل رونق القصيدة وبهاءها، إن هذه الصورة
الرافضة حينما تغدو معزوفة تتناغم ضمن أوتارها وبنبراتها
الصوتية وثيماتها الدلالية، سمفونية الإبداع الرفضي، لدى
الذات الشاعرة ـ نهجس من خلال إيقاع الروح المتوقد الجمر
اللاهف نحو المزيد من الحرية والفضاءات الكونية الرحبة
إنها روح الإنعتاق المطلق الذاهبة تجاه كل ما هو حرية
وانطلاق.
تناصات العصيان / الموروث / التاريخ.
إن المستقرئ لديوان "العصيان" يلحظ عن كثب هذا الإختزال
الموروثي والتراثي والبعد التاريخي بشكل جلي، ففي سبيل خلق
كون شعري تتصافح فيه كثير من الأنسجة وتتمازج عبره ثلة من
التخليقات الإبداعية، وتنصهر فيه عذابات الروح الشاعرة ـ
نجد شاعرنا يغير على التراث لينهل منه ما يستطيب له أن
يرصف به عالمه الشعري، وسأقفو أثر بعض الدوال من خلال رصد
سريع مع تجاوز لبعض الدوال ـ التي ليست هذه القراءة
الخاطفة موضعها، إن معجم شاعرنا ليعج بمفردات وتراكيب ـ
ولو من خلال هذا الديوان ـ بوصفه انموذجاً على ما نزعم من
نحو: جهنم / أوتارهم / سآوي / كربلاء / يا قبيلتي / سنابك
/ خيل المغول / دواة / محاجر / الظليمة / السيوف / جنكيز /
ليلى / المجنون / الصواع / الردة / السيف أصدق / زينب /
الحسين / رأس الحسين يتمتم بالفاتحة / الأثر / صعصعة /
البسملة / ما قد القميص / لا عاصماً / إني لعبد الله /
النخيل أبسق / سيعقرها / أتت بها قومها / اترك البحر رهواً
/ هي أدهى أمر.
ليس بدعاً أن يتكئ شاعرنا على ما لديه من موروث ديني أو
تراثي أو تاريخي، فكل هذه الأمور مجتمعة، أو متفرقة ترفد
العملية الإبداعية، وتحفل المنجز النصي بشظايا ابداعها،
ولعل شاعرنا فطن إلى هذا الرفد الزخار بمختلف اللالات
الرامزة المؤثرة. |