قصائد علي الجلاوي.. حنين إلى القيود المهجورة

 
  بقلم : جورج جحا  
 

تتحكم بقصائد الشاعر البحريني علي الجلاوي في مجموعته الاخيرة عودة الى قيود يوحي للقاريء بأنه هجرها شأن كثير من معاصريه كما يتسم شعر المجموعة بنزعة فكرية فلسفية جارفة.

مجموعة الجلاوي المدينة الاخيرة ضمت ثماني قصائد ومقدمة. وتوزع ذلك على 69 صفحة متوسطة القطع شكلت الكتاب الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ووزارة الاعلام والثقافة والتراث الوطني في مملكة البحرين. وحمل الغلاف لوحة للفنان التشكيلي البحريني جمال عبد الرحيم.

ويمكن للقاريء أن يتبين موقع المدينة في اسم المجموعة ومدلولا تها عند الشاعر من كلمة الاهداء ومقدمة الكتاب. فالجلاوي يهدي مجموعته لكل المدائن التي نامت على دمها. لكل الذين لم يصلوا الحلم الا وقد تخثر في دمهم.

اما المقدمة فقد تألفت من ثلاثة مقاطع هي استشهادات من ثلاثة اسماء كبيرة وردت دون اعتبار للترتيب الزمني.

المقطع الاول لابي نصر الفارابي من كتابه اهل المدينة الفاضلة. تلاه كلام لافلاطون في الجمهورية ورد على لسان سقراط والثالث للسهروردي صاحب هياكل النور ومذهب حكمة الاشراق.

وجاء في كلام الفارابي عن اهل المدينة الفاضلة ان المقهور منهم على فعل شيء لا تضره الافعال التي اكره عليها. ويتحدث سقراط بمقولة افلاطون الشهيرة ان زوال الشقاء الانساني لا يكون ما لم يتملك الفلاسفة او يتفلسف الحكام. وجاء في قول السهروردي ان رئيس المدينة الفاضلة يصبح كذلك عن طريق ادراك حكمة الاشراق وبلوغ الكمال وارتباط نفسه بالعقل الفعال.

وانعكاس الاراء الفلسفية في شعر الجلاوي او ورودها مباشرة احيانا ظاهر جلي.

القصيدة الاولى مثلا حملت عنوانا من التراث الديني وان جعله الشاعر معكوسا وهو الخلق في اليوم السابع. انه قصة الخليقة كما يفهمها خيال الشاعر لكنها كذلك مزيج من الاثر الديني والاراء الفلسفية بما فيها تلك المبكرة التي تعود الى بدايات التفلسف. في القصيدة رموز واشارات.. حواء والتفاحة والله يعلم ادم الاسماء والعناصر الاولى او معظمها مكررة الماء والهواء والتراب والنار.

قال الشاعر لم يرد التراب الى يديها  غير نافذة تطل على المسمر من مواجعها...  ما بين انتظار النار تلهج بالصلاة وتوجد الاسماء... وتخرج للمساء على احتدام الضوء فيها ما تيسر من كتاب الماء تنزله ... يا الطين يا ابن خطيئة التفاح  ... كانت لحظة التكوين  امك بالندى تمتد جمعها التراب ابوك... القصيدة التي تلتها حملت عنوانا فكريا مباشرا هو حوار مع الفارابي. وهي تعود ايضا بالقاريء الى ما قبل الفارابي.. الى العناصر الاولى. هذي مدائن توقظ من طيننا  كتلة الماء والنار والتراب و الرمد... ويتساءل الفارابي الى اين تاخذنا هذه الخطوات ثم يتبع التساؤل بجواب يوحي بفكرة المدينة الفاضلة فيقول الى مدن لن ترى تعبا  لن ترى اي حزن يمر وليس على دمها الانتقاء.

اذن هناك عاملان اثنان جمدا بعض شاعرية قصائد الجلاوي. اولهما تحكم العامل الفكري او الرأي الفلسفي مما حد من الانسياب الشعوري. يقول الشاعر كلنا واحد ظله يحمل الشمس  كل الحقائق نبع حقيقته  ليس فيها من النقص والماوراء... وكل الحقائق ليست حقائق غير حقيقته  والمسرات من صنعنا لا عياء.

والشاعر لم يكن مضطرا الى ان يتحكم به العامل الاخر وهو القيد اللغوي من حيث مسالة القافية. وقصائد الجلاوي تدخل دون شك في نطاق ذلك الخليط المتعدد الانواع الذي يطلق عليه اسم الشعر الحديث وتدخل فيه انماط وتسميات منها الشعر المتعدد الاوزان والقوافي والشعر الحر وقصيدة النثر. وقد يغدو الامر اكثر وضوحا اذا قيل

انه كل ما لا يدخل في نطاق القصيدة العمودية التقليدية العربية ومن ابرز سماتها وحدة الوزن والقافية.

الا ان شكل قصائد الجلاوي هو مزيج من رباعيات وخماسيات احيانا مكتوبة بطريقة حديثة في القسم الاكبر منها وكلاسيكية في الاخر اذ انها ذات اوزان متعددة وتخلو من القافية الا في سطرها الاخير حيث نجد كلمة ذات روي يشبه روي الكلمة الاخيرة في السطر الاخير من مجموع سابقة او لاحقة.

الا ان هذه القافية ليست ثابتة بل متغيرة كما ان احداها قد لا تأتي

منسجمة تماما مع الاخرى. فكان الشاعر بعدما تفلت من قيود القصيدة الكلاسيكية تحكمت به حال من الردة فعاد لا الى قافية واحدة بل الى قافية بعيدة تتغير بين حين واخر وبينما يكون القارىء قد نسي القافية الاولى تأتيه التالية وتبدو مدفوعة دفعا كأن لا علاقة لها بما سبق.