المدينة الأخيرة...التحام بين أزمة الوطن وأزمة الجسد

 
  بقلم : نادر المتروك  
 

وضعية علي الجلاوي، بوصفه شاعراً مقتحماً، تحيل على إشكالية الشعر البحريني التي هي جزء من اشكالية الثقافة في البحرين وعموم منطقة الخليج العربية. فقد كان من العسير على آليات عمل الثقافة المحلية - وبلحاظ اهتراء مؤسساتها الرسمية والأهلية - أن تنتج أجيالاً ثقافية متتابعة، تنتظم من دون كدمات أو جروح في إنتاج الإبداع والوعي الثقافي. والجلاوي الذي تنسّم شعرياً في أجواء اللامؤسسة، كان ينتقي دلالته الفنية ومعادله الشعري بعيدا عن قسريات المؤسسة وملزماتها المنمذجة. ولذلك وفي إطار الانقسام على المؤسسة، كان الجلاوي شاعراً طبيعياً. غير أن فساد اللغة والتفسخ الشعري الذي تهندسه خطابات المؤسسة، والانجراحات الكريهة التي لا تندمل جراء الخضوع للقوالب المهيمنة بفعل التعميم، أدى إلى انحياز الجلاوي عن طبيعته الشعرية، ليبدو باحثاً عن أرق آخر، لا يخلو - في القواسم المشتركة - من جريرة الانتساب إلى الشعر الجديد! وهو انتساب اضاف إلى معاناة الاقتحام الجسور، أزمة القبول وتحقيق شروط الإرضاء. ولهذا كان من غير المفاجئ ان تتراجع نسبة التقييم الممنوحة لشعرية الجلاوي في ذات مسابقة محلية لتصل إلى 40 في المئة، وان يمتنع نقاد الشعر (الكبار) عن إبداء (تعليقات) نقدية على تجربة هذا الشاعر القادم من مساحة الاغتراب والتخاصم. والأقرب إلى الصدمة، ان الجلاوي/ الشاعر، كان ضحية التركيب الشللي والبناء المشلول الذي يختم على المعقولية الشعرية والثقافية السائدة والموبوءة اصلاً بنظام مقنن من الشعوذة والافتعال. وضداً لذلك، يصر الصوت الآخر المتحرر من المدارس على الحضور وابداء التباهي والغرور المشروع، رافضاً إملاء النماذج المستديرة، والرهان هو عنفوان المحاولة، وأمل إزاحة الشخصيات وترحيلها إلى حيث التعري.
الجهد الجهيد الذي يحفره الجلاوي هو الخروج من أسر نماذجه الشعرية. إنه لما يخلق كامل عالمه الشعري، ولايزال في طور الانسلاخ من ذاكرته الشعرية، وفحولة التناص، وموروث القراءات الاولى. وهو اذ يبدي اندفاعاً عجيباً في ذلك، فإن اشباح أحمد مطر ومظفر النواب وقاسم حداد تطل اكثر من مرة بين اكثر من ايقاع ومفردة وتركيب وايحاء.
وفي عمله الشعري الجديد، يحقق علي الجلاوي انتقالة تحسب له بقدر ما تصعب عليه! يبدو العمل الجديد اكثر احكاما ورسوخا في اللغة والدلالة والبناء، ونكاد نسمع استفراداً خالصاً في البناء الشعري والتراكيب اللغوية الآسرة.
في ديوان (المدينة الأخيرة) تتوزع القصائد على ستة منازل تضمّها (المدينة الأخيرة) وإطلالتين تدرج ضمن الـ (ملحق)، إضافة إلى إهداء دالّ، ومقدمة

احتوت على نصوص للفارابي وافلاطون والسهروردي. ومنذ البدء تتجلى العناية المحكمة في إخراج النص وإتمام بنائه، إذ يتكاتف الاهداء والمقدمة في إنارة الدلالات، وتماسك اللغة وانبعاثها المتجدد على امتداد نصوص المدينة وملحقها. وعن هذا الإحكام المصحوب بالانارة والانبعاث، يصدر الجلاوي عن وعي شعري كاسر، يستحضر الارواح والدماء والخلق والتكوين، الوجود والعدم. يعاشر الفقراء والفلاسفة والآلهة، ويبث يوتوبيا حالمة بالمكان المسجى فوق جبين الانبياء والمقدسين.
الجلاوي في هذا الديوان يعيد بناء الكون، يمتلك العالم ويستأنف حكاية الخلق والنشأة الاولى. وهذه فاصلة تستدعي اختلافا في الرؤية والرؤيا، ولكنها تمارس بالقاموس الشعري ذاته الذي يطفو عليه شعر الجلاوي. قاموس الدم والكربلائية تحديداً. الا ان التجريبية القاسية في فعل الرؤيا، تفلح في تخطي محدودية القاموس وما يتضامّ معه من تجريب جمالي مغلق. فينحى الجلاوي، بمؤونة الرؤيا، إلى اشباع قاموسه بالتماعات اضافية تستقي وهجها من الاسطوري والفلسفي/ الصوفي والثيمات التاريخية الرامزة.
"رأيت الحقيقة/ لكنني حين أمعنتها لم اجد كربلاء/ وجدت بمنحرها قبلة/ والفرات يجيء إلى ركبتيها /يحطُّ مواويله/ لم يخلع احزانه/ ينزل الفجر في دفئها انبياء".
"رأيت الحكيم يدور بأخطائه. وأبو نصر يرتكب الحزن/ سقراط من جسد النص يغسل/ أطراف صمن قديم/ يجر بكأس مريديه شيئاً يسمى البقاء". "رأيت على قبة النهد شيخاً يصلي/ يقبّل تفاحة/ فوق وجه خبيث البياض/ رأيت العصافير يخجلها صمتها/ عندما تستفيق على وجع الاشتهاء". وبهذه الرؤيا الكاشفة، يبحث الجلاوي عن مسام آخر لمأزق الوجود، وكارثة البقاء. وتصبح المدينة - بملء شظاياها - المأوى الذي يشهد الانكسارات وألوان النفي والاضطهاد. ولم تسعف الظهورات الجديدة التي استجلبت وعوداً جديدة، على إضفاء مرثية واعدة للحلم، وإنما افضت بالكشف إلى الاغتراف مجدداً من حلم مغموس بالدم والأوجاع، ومرتطم بالجسد المكتظ عسفاً ونفياً. "إن كل النخيل التي آمنت/ بسماء المدينة بالضوء/ قد راهنت/ أن حلماً يجيء/ ولكنها انتظرت / المدينة يغسلها ليلها من دم المرحلة".
ترتبط أزمة الوطن/ المدينة/ الانتماء بأزمة الجسد عند الجلاوي. وهذا التداخل بين الحقلين يستمد حضوره المتلازم من ذاكرة دينية وميراث اسطوري مشترك في نصوص الجلاوي الشعرية. فأزمة الانتماء التي تشتبك بضياع متكثر للهوية، تجد صداها في انثناءات المدينة وانحناءاتها المهزومة، والذي يحيل بدوره على الوطن/ الحلم. والوعي الشعري المعاصر لا ينفك عن تصوير انخلاع المكان/ الحلم، إلا

مردوفاً بانخلاع جسدي، يأخذ تارة صورة الشبق والاشتهاء، وتارة ايحاء الطهر والصفاء. وهي مزدوجة أصيلة في شعر الجلاوي، المسكون اصلا بمزدوجات غير آيلة للحسم نظراً إلى ترادف الشعرية عنده باليوتوبيا التي تمنحه إمكانات فاعلة ومبدعة، تفتح باب المستقبل على مصراعيه، وتستنفر في بعده الانساني مقام التأويل الصارخ والتشرد ألا متناهي.
"يا أنت/ كما لا يفهمك التأويل / تدبُّ بغير زمان".