قراءة في قصيدة شيخ الحانة / للجلاوي

بقلم : حبيب حيدر

 

يحاولُ هذا النصُ أن يلجأ إلى حبيب بن مظاهر ليتكئَ عليه مفجراً للقصيدة، فتكونُ القصيدةُ قصيدةَ الشخصيةِ، التي تحفرُ في أعماقِ المعنى و تستعيرُ من الشخصيةِ البريقَ والألقَ ناسجةً معاني تحلقُ في آفاقٍ بعيدة.

 

(1)

تفيض

لك الحان

واشتعل الكون ثلجا

تشد النخيلات كي تبصر الحان أشهى

: لماذا يسوق الإله من الخمر قلبي!

تفيض

فما يملأ الصمت هذا إذا ما توقف نطق الكلام!

        في المطلع يرصدُ النص صورةَ ابن مظاهر وقد أُنهِلَ من العطاء وتعلقَ بالهيام وذلكَ في (تفيضُ/ لكَ الحانُ) ، ومن خلال التضاد بين الحرارةِ والبرودة في (واشتعل الكونُ ثلجاً) نرصده وكأنه يحترق بالبرودة التي تمثل السكون القاتل؛ فالكون إذا اشتعل ثلجا تجمدت فيه الحياة، وهنا يتطلع النص لأن يُولد صورةً تخترقُ عنصر التوقع وتكسر المعتاد لتُثير معنىً أعمق يتحدى المتلقي ويفاجئه بالمقابلة بين اشتعل= الحرارة/ وثلجا= البرودة  متناصا مع الصيغة القرآنية (واشتعل الرأس شيبا) ولفظة اشتعل في الآية تبين الحسرة على سرعة انتشار الشيب الأبيض في الرأس كاشتعال النار وتحويلها الأشياء إلى رماد في أقصى سرعة، وفي القصيدة كذلك اشتعل الكون ثلجا في أقصى سرعة وتحولت الحياة إلى بياض وثلج و جماد وسكون، و يمكن تجلي ذلك من خلال متابعة ما تستدعيه الألفاظ من عمق في مخزونها الدلالي بالشكل التالي :  

اشتعل= الحرارة= السرعة= الرماد= السكون= الجماد= الحسرة.

شيبا= البياض= الكبر= الموت= السكون= الجماد= الحسرة.

ثلجا= البياض= الجمود= السكون= الحسرة.

     بعد سبر أغوار الألفاظ واستدعاءاتها العميقة التي جلّت حالة التحسر بقي النظر إلى انحراف النص من الرأس في الآية إلى الكون في القصيدة، وهو إن الرأس يمثل الذات وبالتالي فإنه يستدعي الهم الخاص وذلك أنسب للسياق  في خطاب زكريا ) قال ربّ إني وهن العظم منّي  واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا) "4 سورة مريم" إذ كرر ياء المتكلم أربع مرات ليبين ما يعانيه زكريا من  ضعف ووهن شيخوخة وهو أدل على الحالة الذاتية في الشكوى، أما لفظة الكون التي انحرف إليها النص فتستدعي الكل العام وبالتالي يكون الهم هماً كونياً عظيما يستدعي الفجيعة والتحسر على ما آلت إليه الحياة من ذل وخنوع حولها إلى حياة  جامدة ساكنة.

      من هنا تحتاج الحياة إلى دفء الفارس، إلى دم حار يجري في العروق حسرة على ما آلت إليه الحياة من ركود وسكون و جمود. إلى دم يثير حركة تبدد السكون، و دم يعيد للحياة حرارتها.

      وهنا تبدو صورةَ ابن مظاهر بعد الخلفيةٍ السينمائية كما في الشطر التالي: (تشدُ النخيلات كي تبصرَ الحانَ أشهى) وكأنهُ في كبرِ سنهِ قد شدَ حاجبيهِ وحدقَ بين النخيلات بدقةٍ حتى يبصرَ حانتهُ وهي مكان شهادتهِ بصورةٍ أوضح وألذ وأشهى، وعبرَ أسلوب الاستفهام في (لماذا يسوق الإله من الخمر قلبي!) يبين النص أن القلب قلب حبيب هو مكمن خمرة الحانة المتصلة بالإله إذاً فهي خمرةٌ قلبيةٌ إلهية، ثم يأتي دور الكلام ليتحيزَ في المكان فيملأ حيز الصمت والكلام هنا هو القصيدة في أسلوبٍ استنكاري (فما يملأُ الصمتُ هذا إذا ما توقفَ نطقُ الكلام) ، وليكون تداعي المعنى بهذا الشكل:

( تفيض ... / العطاء،

( الحانُ.../ مكان الشهادة الذي يحلقُ بي إلى عالم الشهداء،

(الإله ... الخمرُ ... قلبي ... / مصدر ومكمن السكر،

(نُطقُ الكلام.../ القصيدة.

 

(2)

لك الحان فاشرب بقدر الظمى

أوبقدرك

تغسل عيناك ظهر المدى

أوقفته على حزنه البيض

حيث اكتفيت برفع النخيلات

صرت ترى الله أكثر

ماخر سيفك حين تجلى ـ فقبلته ـ

وبقبضته بعض شحنة موت

تضيء النجوم البعيدات

كيف تخون الحياة وترضى بموت عظيم    

     يقدم هنا النص للشخصية الحان= السكر= الهيام= التحليق في عوالم الحلم.. ويلجأ إلى فعل الأمر ((فاشرب)) والشرب لفظه استدعتها لفظة الحان..

     وتأتي عبارة بقدر الظمى لتبين حقيقة الخمرة والشرب، فهل تعطش الروح إلى الخمرة؟ هل يظمأ الإنسان إلى الخمرة؟ إنه ظمأ الروح إلى عوالم الهيام في المحبوب.. إنها دعوة لاستغلال الفرصة.. والوصول إلى أكبر جرعة منها من خلال أسلوب التخيير عبر حرف العطف (بقدر الظمى أو بقدرك) وفعل الأمر فاشرب دعوة للتضحية بأكبر قدر ممكن، التضحية التي ستعود بإماتة الظمأ.. وإحلال الرواء مكانه.

    (تغسل عيناك ظهر المدى).. هنا يجعل النص من عين ابن مظاهر فاعلة لتكون أداة للتطهير في الحركة التطهيرية لكل ما حولها، فالعين بنظرة بعيدة ممتدة تغسل الصحراء الممتدة وتطهرها.

     هكذا يظهر النص حبيب بن مظاهر في الرجل الكبير الذي أشعل الهوى رأسه شيباً واقفاً على حزنه.. الطويل الذي أذكرته إياه السيوف.. وهنا نتساءل كيف توقف السيوف الإنسان التطهيري  حبيب بن مظاهر على حزنه .. تلك قصة طويلة للرجل الذي  كلما شاهد السيوف تذكرها..  تذكر الخطوب التي مر بها متناصاً مع البحتري:

أذكرتنيهم الخطوب التوالي  **  ولقد تذكر الخطوب وتنسى ..

 إذ كلما  شاهد حبيب بن مظاهر السيوف في المعركة هاج به العشق و تذكر الأحباء  في تاص مع عنترة:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني ** وبيض الهند تفطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها  ******  لمعت كبارق ثغرك المتبسمِ

    

      وينقل عن ابن القيم الجوزية  قوله في عنترة بهذا الموضع: هذا حال رجل تذكر محبوبته فكيف بمن تذكر الله.  فماذا يتذكر حبيب كلما رأى السيوف؟ إنه يتذكر المعارك التي خاضها .. والتي كلما خرج منها تحسر على أنه لم يكن شهيداً مع أصحابه .. هكذا توقفه البيض السيوف على حزنه.. وهيامه بالمحبوب الأكبر.

 

     ومن عين على الصحراء لتطهيرها بالحلم، إلى عين على البيض السيوف لتذكر الأحباب والحسرة على الشهادة، إلى عين على النخيلات مرة ثانية .. عين ترتفع إلى النخل ..و تكتفي برفع النظر إلى الأعلى بطول النخيلات الباسقة التي كلما نظر إليها .. ورفع بصره رأى الله أكثر ...

    هكذا يتفاعل النص مع العناصر: الحان/الصحراء/السيوف/النخيلات.. وتكون النتيجة ((صرت ترى الله أكثر)) إن هذا التزاوج مع الطبيعة ولد  عمقا و وضوحا في الرؤية....

ولذلك يستحق السيف القبلة ساعة التجلي (ما خر سيفك حين تجلى فقبلته) .. فيكون التضاد المؤثر بين خر وتجلى معادلة.. نتيجتها القبلة.. جزاءً للسيف كما هي قبلة عنترة في المعركة….

فوددت تقبيل السيوف لأنها * لمعت كبارق ثغرك المتبسمِ

     إنها عزة السيف.. التي تتجلى في البريق وتجعله أعز ما يكون هو حينما يهوي،  وأرفع ما يكون هو حينما ينزل ليحصد العزة.. من الأرض.  ومنه هذا البيت الذي يستغل – بطريقة فاضحة جميلة- هذا المعنى المتفجر من التضاد بين النزول و الصعود:

نزلوا عن خيولهم للمنايا **  وقصارى  ذاك النزول صعودُ

  وهكذا هي المعادلة الروحية النزول صعود المعادلة تقول ((أفضل ما يكون العبد ساجداً)) فالسجود ـ الذي هو قمة في الخشوع ـ فناء وتحليق وعلو في عوالم السماء.

ما خر سيفك حين تجلى فقبلته.

وبقبضته بعض شحنة موتٍ..

تضيء النجوم البعيدات..

      قبضتك للسيف هي قبضة للأرواح.. وبريقه هو بريق يحمل شحنة كهربية مميتة.. ولكن هذه الشحنة تستضيء بها النجوم البعيدة إذاً هو سيف فيه التضاد من بين الموت الموازي للظلام والإضاءة الموازية للحياة.. وهكذا هي الشحنة الكهربية التي تتولد من تفاعل القطبين بين السالب و الموجب..الموت الظلام/الضوء الحياة.  

     وإن وجود السيوف البيض – والموت – والنجوم والإضاءة/البريق يجعل النص عند المتلقي  يتعالق مع بيت بشار بن برد في قوله:

كأن مثارالنقع فوق رؤوسنا* وأسيافنا  ليل تهاوى كواكبه

     حيث جعل من الظلام الذي يتكون من غبار المعركة ليلاً، وبريق السيوف وانحطام الفرسان والخيول وتصادمها كواكباً تتهاوى وأضواء تتعاكس..

     وهذا تعالق على مستوى العناصر فقط وهنا يكون الاختراق الذي يحاول التجديد فاللغة هي اللغة والعناصر هي العناصر/السيوف/النجوم/الموت.. ولكن المعاني تتعمق.. كلما مر الزمن ليكون الشعر هو إثراء الكلمات وتعميق دلالتها..

 

(3)

  كيف تخون الحياة وترضى بموت عظيم

أم الناهدات الكواعب أتقن

أن يفترسن الفوارس

أم أن قلبا صغيرا تعلق في ناظريك

فأثقلت النخل ؟ ظهر المدى

توزعت أكثر من أي حزن  فقد ضاق ـ وحدك ـ

هذا الزمان عليك

     دائماً حينما تأتي السيوف ويأتي الموت يبرز نداء الحياة فيحاول النص أن يجعل الاستجابة لنداء الشهادة هو خيانةٌ للحياة ولكنه يتغافل عن هذه الخيانة بعبارة تبين جلال الموت لديه وعظمتهِ في عبارةٍ استنكارية تحمل المدح في ثناياها ((كيف تخون الحياة وترضى بموتٍ عظيم))

     وهنا يبرز نداء الحياة الجذّاب في مظاهر الجمال المتمثل في عنصر المرأة عبر  ((الناهدات الكواعب، أتقن أن يفترسن الفوارس)) التي تفترس في الفارس فروسيته وبطولته و تدعوهُ للإخلادِ إلى الأرض والإبطاء عن المعركة، وفي أسفلها نداءٌ صغير هو نداء الحياة الضعيفة، المتمثل في الابن طفلك الذي يتعلق بكَ ألا ترحل ((أم أن قلباً صغيراً تعلق في ناظريك)) وتأتي عبارة ((فأثقلت النخل ظهر المدى)) لتبين مدى استمساك الحياة بالإنسان من خلال نداء الطبيعة فيه الذي يشد الإنسان إلى الأرض ويثقلهُ عن الانطلاق، وهنا يحاول النص أن يحبك الصراع ويضيق على الشخصية المأساة ويربط بين خيوطها بنداء الزوجة ونداء الطفل ونداء الأرض، فتشتبك المأساة وتتوزع الذات ويضيق عليها وحدها هذا الزمان ((فقد ضاق وحدك هذا الزمان عليك)).

 

(4)

تفيض

وكأسك مترعة

تتعرض للصمت

تغرق كيف ترى خمرة الروح

خطو المغنين

حين يعود إلى الطين ضيفك

تبقى وحيدا مع الروح

حيث تسابقها فلقد ضقت بالروح

كيف احتملت الزبد

     وفي زاوية جديدة يعيد النص التماسك للشخصية بإرجاعها إلى خمرتها، فتفيضُ للعطاءِ والكأس مترعةٌ ممتلئة في تناصٍ مع دعاء الصباح ((وكأسكَ مترعةٌ، في ضنك المحول )) فيلجأ إلى الصمت ليستعيد قواه الآتية من خمرة الروح التي تفضي بحديثٍ داخلي (مونولوج) فيخطو خطو المغنين بعينٍ على الطينِ.. الأرض.. الحياة.. الهبوط/ وبعينٍ أخرى تبقيه مع الروح في سباقٍ ينجيه من الأرض وندائها الطيني، ليتساءل بعد ذلك في مناجاة هادئة مستغربا متعجبا (كيف احتملت الزبد)  والزبد قد تمثل في مثلث النداءات:  نداء الزوجة، نداء الابن،  نداء الأرض، أعمدة ثلاثة متشابكة كانت تحاصره وقد حذق النص باللجوء إلى استخدام الصيغة الاستفهامية الدالة على التعجب كيف، وباللجوء إلى الفعل الماضي احتملت للدلالة على انتهاء المحنة والتعجب من القدرة على تحمل تلك الضغوط الملحة والفرار من مثلثها المطبق وشدة الإعجاب بالشخصية وتماسكها بعد تشظيها وتقديمها في صورة قوية صلبة فاعلة تمثل صورة البطل الذي تتجلى بطولته مع النهاية.    

 

(5)

 آه

يا الطين ما يشرب الشيخ ؟

: يولم نخب الجسد.

     ومن التساؤل السابق إلى تأوه للنص ونداء للطين كيف تخلص منك حبيب وإلى تساؤل جديد وكأن القصيدة لا تنتهي فهي لم تستطع الإجابة على كل الأسئلة، وهذا التساؤل الجديد هو (ما يشرب الشيخ؟ )  فتكون الإجابة بعد النقطتين الدالتين على القول بالفعل المضارع الدال على الاستمرار في أنه يولم نخب الجسد وهو الدم دم الجسد الأرضي الطيني الذي سيصبح بعد الذبح والاستشهاد  دم شهادة ويكون نخبا آخر.

     إن النص ليتأوه عبر صوت آخر قد يكون صوت حبيب أو صوت باعث الرسالة الشاعر أو صوتك أنت أيها المتلقي، إنه  يتأوه متطهرا بالألم وينادي الطين في تساؤل عما يشرب الشيخ حبيب بن مظاهر حينما يجلس على وليمة وهي الشهادة أو كربلاء ويضع أمامه نخب الجسد الشهيد الذي هو دمه.