علي الجلاوي:

لقد تخفف الشاعر من هوس الثورة.. وآمن بالحب

(صحيفة العهد البحرينية )

 

حاوره - مجيد الموسوي:

المشهد الشعري البحريني مشهد شائك، وهو يطل على الأدب العالمي بوصفه آخرٌ له رقمه الصعب، فهناك تجارب بحرينية وصلت إلى العالمية باستحقاق كامل، ربما هذا ما جعل التجربة أو التجارب البحرينية في المشهد الشعري محل جدل واسع، سواء من حيث تعدد الأشكال واختلاف منابعها، أو من حيث قدرة هذه التجربة على التجاور والتجاوز في آن، ولعل من التجارب التي تركت أثراً لخطواتها في هذا المشهد بصورة سريعة ولافتة هو الشاعر علي الجلاوي، والذي أخذت اللغة الشعرية لديه تنمو وتتجدد، ولعله صار مثار جدل حول تجربته التي أخذت أكثر من شكل وأكثر من رؤية، فقد وجدناه في القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة والنص المفتوح أو ما يطلق عليه "قصيدة النثر"، ولعل تصارع الأجيال قد أفرز أيضاً نتاجاً اجابياً، حيث دخل الجيل السبعيني هوس الأيديولوجيات وترك أرثه كمشروع للجيل الذي تلاه أو الثمانيني، ليدخل الجيل التسعيني في أزمة الهزيمة أو الانكسار الشعري إلا بعض الأسماء، ثم الجيل الألفي إذا صح التعبير والذي فهم اللعبة في اعتقدي وأدرك الأخطاء مبكراً بعد ارتكابها، الجيل الألفي الذي يقول عنه الناقد والشاعر كريم رضي أن على رأسه الشاعر علي الجلاوي، والذي يقول أيضاً عنه:  جاء هذا الجيل بعد جيل التسعينيات الذي خانه الصوت الإيديولوجي بعد انهيار المد الواقعي و شهد جيل التسعينيات موت الحداثة والعلمانية وصعود الموجة الدينية ثم انحسارها، وكان نتيجة هذا الصعود والانحسار أن جيل التسعينيات لا يعرف بحق أين يصنف نفسه، أهو مع الحداثة وعصريتها المتطرفة أم هو مع شكلها الأخير في ما بعد الحداثة الذي ينفتح على الماضي وعلى الدين وعلى التراث متصالحا معه. ولازال على جيل التسعينيات أن يحسم أمورا كثيرة وأن يكون له صوته الخاص الذي يسم به عصره كما فعلت الأجيال الأدبية السابقة.

ولأن الشاعر علي الجلاوي كان محل جدل، بسبب التجربة الغنائية التي يقترحها كان لابد لجريدة العهد أن تحمله على النطق، وأن تضعه على كرسي الاعتراف مجازاً، وأن تفتح معه نافذة على هذه التجربة الألفينية التي لا نعرف إلى أين تأخذنا بخطواتها.

 

* نبدأ بديوانك الأخير (الدلمونيات)، لماذا اخترت له اسم حضارة قديمة؟ هل لتثبت هويتك وامتدادك في عروق هذه الأرض؟ أم بغرض خلق نوع من التماهي بين الذات والمكان ؟

ربما سأقول لماذا اتخذت التجربة الطابع الدلموني أو السمة البحرانية لغةً، دعنا ننطلق من الأمور التي قد تكون بديهية، وهي كون الشاعر انعكاساً لمجتمعه، وأنا ابن البيئة التي تحيط بي، لا أعتقد أني محتاج لاستيراد ثقافتي الشعرية مع وجود كل هذا التراث الضخم، دعني أقول لماذا دلمون وليست تايلس أو هجر القريبة أو البحرين الحديثة، ربما لكونها أكثر شمولية وعرضة للشاعرية بما تحمل من بعد غيبي وتاريخي!، وأعتقد أن من يحتاج لإثبات هويته هو من يعيش أزمة في ذلك، ليست هناك غائية أو رسالة نبيلة خططت لإيصالها لأحد ما عندما حاولت أن أكتب ذاتي من خلال اختيار دلمون، أو حاولت أن أخطئ أكثر في سعيي لكتابة ما أعتقدني أريد كتابته، لست مستعداً لمنطقة الشعر ليكون أكثر توقعاً للناقد، ولست مسؤولا عن تبرير سبب اختياراتي، فأنا كشاعر علي أن أقول وأكتب، وعلى المتلقي إذا أراد أن يفهم بطريقته أو أن يؤول إذا أراد، سواء بقرينة أو بغير قرينة، الأفق الشعري مفتوح على أكثر من احتمال، وليس ذلك لتضخيم الاختيار الواعي أو غير الواعي في نفس الوقت، أو لشرح الأسباب الكامنة وراءه، إنما لكون كل ذلك ثمرة ذاكرة، ذاكرة تختزن كل هذا التناقض والتنافر والوعي. 

 

* ولماذا استخدمت صيغة التأنيث في عنوان (الدلمونيات)؟

يعتقد هايدجر أن أهم القضايا العصرية هي قضية التأنيث والتذكير أو ما هو مؤنث وما هو مذكر، هل يجب أن يكون الرد سهلاً مع كون السؤال أشد خطورة من أن يحتمل إجابة واحدة؟!، أتدري لم أعد أحسن أو أمتلك إجابة قد تدهش القارئ، لماذا أطلق فرويد مشروعه على سمة الفرق بين الجنسين، وأعتقد أن ذلك قد يسحب على التحليل النصي مقابل التحليل النفسي أيضا، وهل يجب أن أقول لك كما قالت امرأة يوماً لجان جاك روسو أن" دع المرأة وادرس الرياضيات "وأقيم بها بعض التعديل لأقول دع التأنيث وادرس اللغة، لا أعتقدني سأتخذ دور المرأة، فهذا مشروع لست رائداً فيه أو لا أصلح له، أتدري / مازلت أجهل التاء منها المفتوحة والبكر، لماذا اقتصرت نقاطها على نقطتين، ولماذا أحسنتْ أو أخطأتْ وجودها الثالث، أي بعد الألف التي هي الله والباء التي هي أب المنسلخ من الألف الأولى والمضافة لها باء الممكن، لتأتي تاء التأنيث كعملية ارتباط بين المطلق والممكن، لم أعد أدري لذلك سأعود الآن لقول المرأة التي خاطبت روسو ولكن بشيء من القَرْأَنَة (أن دعني ومن خلقت وحيدا).

 

* هل استطعت الانسلاخ من بواعث الأيديولوجيا الدينية في كتابتك الشعرية، حيث يلاحظ كثافة استخدام المفردات ذات البعد الديني في المرحلة الأولى من تجربتك؟

لا يمكن لإنسان أن ينسلخ عن شيء كانه وأعتقد أن كلمة "انسلاخ" حادة ولا تتلاءم مع مشروع تطور القصيدة أو تغيرها، قد يتخفف من بعضها أو تتحول عنده عملية إنتاج اللغة إلى كيان جمالي لا يخضع لمفهوم الرسولية، النبي المصلح الذي يخلع على الشاعر المنتمي لأيديولوجية ما، علماً بأني أجهل هذا المقياس الذي يجعل من بعض المفردات دينية وبعضها غير ذلك، وأي دين من الأديان أم سائر الأديان، فيقتضي ذلك احتمال كون كل مفردة دينية وكل مفردة غير دينية في الآن معاً، فهي تحتمل النقيض بحسب الزاوية التي ننظر منها.

 

* تأسيساً على كلامك السابق، ألا تشعر بنوع من الإقصاء النقدي لتجربتك الشعرية لكونك خرجت من عباءة التيار الديني؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، كيف تصف تعامل النقاد مع شعرك؟

لا أدري كيف يتعامل الآخر مع تجربتي الشعرية، ولم أخرج من عباءة أحد، أنا ابن التيار الديني، وأما كتابة الشعر فلا تخضع لمقياس، بعض النقّاد البسطاء لم يفهموا أو لم يفرقوا بين أن تكون دينياً وبين أن تكون مبدعاً، لماذا هذا الاقتصار أو حصر كلمة مبدع باللاديني؟ هل أصبحت هذه المفاهيم خاضعة لسياسة جديدة تقترحها الإنسانية أو الصيرورة الجديدة للإنسان؟ أما الناقد المطلع - وهم كثرٌ - فقد جعلوا النص هو القرينة الوحيدة، ربما تبعاً لموت الكاتب، أو الأثر الذي يدل على سمة القبح أو الجمالية، وليس ذلك لثنائية واحدة الوجه ولكن هو للتقريب فقط، بالنسبة لي لا أشعر أن أحداً تجاهلني ولا أشعر بعقدة الاضطهاد، بل أشعر بالامتنان للمجتمع المثقف الذي سرّه أن أكون فرداً فاعلاً، أتحرك فيه بكل حرية، خلافاً للمجتمع المتزمت الذي فرض وصايته، حتى بغير آلة الدين نفسه، بل راح يمارس بعض صغاره لعبة الهدم التي يدركها عقله.

 

* يصف بعض النقاد الكلاسيكيين القصيدة الشعرية الحديثة بأنها (فوضى شعرية) بما فيها من غموض ورموز وأساطير مما أدى إلى خلق أزمة بين الشاعر والمتلقي، هل تؤمن بوجود مثل هذه الأزمة؟ ولماذا؟

أولاً هل أؤمن بالحكم المسبق في السؤال حول كون النص الحديث فوضى شعرية أم لا؟ وهل هو منتج من خامات يقتصر عليها مثل الرموز والأساطير ومع شيء من بهار الغموض؟ أعتقدنا نجحف النص بالحديث وفق هذا التوصيف، كما أعتقد أنه كثيراً ما تم طرح موضوع وجود هوة بين المتلقي والشاعر أو النص، ولعلي صرت أؤمن أن الترويج لهذه الفكرة عمل عمله في النص الحديث وفي المتلقي له على السواء، فهو من جهة لديه حكم كرّسه في ذهن الشاعر الذي حاول تبرير هذا الإبهام وعدم تماسك النص وتشظيه أحياناً بعلمية غير صالحة للاستعمال، وبين متلقٍّ فرض عليه أن يفكر بطريقة ما أو ناقد ما أو أيديولوجية ما، فهو في أحسن الأحوال يملك عدة مدرسية لفك أو لفهم النص الحديث، فهل هناك أزمة؟ لا أدري أصلاً إذا كانت أزمة صالحة لتوصيف ذلك.  

 

* يلاحظ أنك اتجهت بعد ديوانك الأول (وجهان لامرأة واحدة) إلى التغريب في لغتك الشعرية. هل تتفق معي؟

إذا لم تحتمل التجربة التجديد، أو المغامرة في خلق نص جديد وفتح نافذة في بقعة العتمة فإني أعتقدها تتجه إلى السكون والانطفاء، مازلت أحاول ألا أخطئ ومازلت أجمع أشلائي وأعدُّ جسدي الذي أقترحه على القارئ، لست مهتماً جداً بما يقوله الآخرون من مثالية، لست بطلاً ولا أريد أن أكون كذلك، وإذا كان التغيير واضحاً بين المجموعتين فشكراً لأنك أخبرتني للتو أني استطعت أن أخرج من الشرنقة، فهل كان ذلك سلباً أم إيجابا فهو متروك لك.

 

* لو انتقلنا إلى آليات توظيف الرمز في قصائدك، كيف انتقلت من طور التوظيف (المباشر) وخاصة للرموز الدينية والشعبية، إلى طور التوظيف (الأسطوري) أو (الفلسفي)؟

لا أعتقدني مسؤولاً هنا عن الرد على هذا السؤال، وسأعتقد أنه موجّه لغيري.

 

* هل يمكن أن تحدثنا عن أهداف (مركز الجلاوي للدراسات والبحوث) الذي قمتم بتأسيسه، ما هي إنجازاته؟ وما أهم مشروعاته البحثية؟

(مركز الجلاوي للدراسات والبحوث) مركز يهتم بالأعمال الكتابية التي تخص البحرين سواء العربية أو الأجنبية، ومن خلال هذا المركز نحاول كتابة تاريخنا الذي بقي لمدة طويلة تحت طائلة النسيان والإهمال، ربما هو رد اعتبار لهذه القيمة التي أصبحت "ماضياً" ولكنها تتحرك فينا كحاضر ومستقبل، ويقسم المركز عمله على ثلاثة أقسام، القسم الأول هو الدراسات المعاصرة، والقسم الثاني ترجمة الكتب والدراسات التي تناولت البحرين ثم طباعتها، أما القسم الثالث فهو لتنقيح وطباعة المخطوطات البحرينية، ولحد الآن قام المركز بإصدار مخطوطة للشيخ إبراهيم المبارك تحت عنوان (حاضر البحرين)، والكتاب الثاني كان عبارة عن كتاب وبحث في (حركة الردة في البحرين)، وستصدر قريباً دراسة حول العلامة الشيخ يوسف البحراني، مع دراسة حول أبو البحر الخطي، ومخطوطة للشيخ محمد علي العصفور المشهور بتنقيح الدكتور الأستاذ سالم النويدري، وهناك مشروع جديد سنتحدث عنه في وقته.