المغايرة والتلقي

 

 

إن المفاهيم الجاهزة، والتي تأسست في الذهن، بصنميات ومعايير جماليات يقترحها الذهن نتيجة الذاكرة، هي المنتج الرئيس لعدم النفاد إلى جمالية المغايرة، وهذا ما يمنع الآخر من النظر إلى جمالية المختلف، ولعل هذه المفاهيم الجاهزة هي موقف ثقافي، قائم على الحدس بإيحاءات علامات مواربة، صنعت ذاكرة الذائقة.

 

فهل يمكن إعادة تأهيل هذه الذاكرة لتمسك باللحظة الزمكانية لمفهوم الحداثة، وجمالية النص المغاير، ومازلنا نراهن على المنتج الشعري، من حيث الكم والكيف، ولكن يبق المعوق الكبير هو آلة التلقي، وهي في أحسن حالاتها عدة مدرسية بسيطة لا ترقى لفهم النص الجديد، بل في الكثير من الأحيان تعمق الهوة، بتكريسها للذاكرة المؤسسة، لذائقة لا تخضع لجوهرية الجمالية، بقدر ما تخضع للمكرس من أمثلة تقيس عليها، ويعاضدها فعل توسيع هذه الهوة ضعف النقد في فهم هذه الصيرورة، أو قدم هذه الآلة بحيث لم تعد قادرة أو يمكنها تحديث آلتها لتواكب اطراد تطور النص الشعري، وربما لذلك نجد أن النقد اتجه لمسارين، الأول التنظير والإيغال الفكري، والثاني التفسير والتعليل لكل هذه الظواهر.

 

ولعل من الإشكاليات التي تصادف النص النثري وربما تكون إشكالية مهمة تفتح الأفق في اللغة أكثر من فتحها نافذة على النثر، أن هذه الإشكالية تقع في نطاق تجنيس النص النثري، وتسميته وانتسابه لأحد الأشكال المتعارف عليها أو كما يحب البعض أن يطلق عليه بالأشكال الشرعية، وهي أي لفظة شرعية تنبئ عن الثقافة التي يصدر عنها مثل هذا الوعي، وعندما أشرت بأن هذه الإشكالية تفتح أفقا في اللغة أكثر من فتح نافذة على النص النثري، كنت أقصد من ذلك محدودية المفاتيح التجنيسية، وغلق باب الاجتهاد على إنتاج شيء مغاير أو مختلف، علما بأنها تفتح باب الاجتهاد داخل التصنيف المنجز لا عليه.

 

ربما التلمس لهذه الإشكالات هو في حد ذاته فهم مغاير، ولا يعدو الدافع وراء هذا التلمس هو الحاجة، كما يقترحها جورج لوكاش، وهي أعمق بكثير خصوصا إذا حاولنا تطبيق هذه المقولة على كون القصيدة النثرية شكل أدبي أو فني ناتج عن الحاجة للتعبير عن جوهر، وهذا الإشكال الفرعي أو الأهم، وهو الفارق في تطور نوع معين من الأدب وهو الشعر، مقابل تخلف واسع يكتنف المجتمع، وقد نوعز ذلك للتلاقح الثقافي والتحولات السريعة، لكن ألن يخلق هذا التناقض أو التنافر بين النص والمجتمع من حيث التطور تضارب أو اصطدام، يجعل من النص عرضة للازدواجية والتفاوت كما يحصل في كثير من النصوص المعاصرة؟.