الطلاق (البائن) بين الديني والسياسي

 

 

 عند الحديث عن الديني والسياسي، أو السياسي الديني، نحن أمام إمكانات يفرضها العقل، وهي بقدر ذلك متحققة وقائمة في المجتمعات اليوم، هذه الإمكانات التي سأطلق عليها منذ الآن الممكنات الأربع أو الزوجات الشرعيات الأربع لتداعي سياسي ديني، هي:

١- تغليب السياسي على الديني.

٢- تغليب الديني في الحقل السياسي.

٣- الفصل بين السياسي والديني.

٤- التوفيق بينهما أو عملية الدمج.

 

الزوجة الأولى آو الإمكان الأول وهو تغليب السياسي على الديني، وذلك بسبغ القرار أو الفعل السياسي برافد ديني، يكفل له النفاد في مجتمع يؤمن بكون الدين آلة الحكم، خصوصاً في أمور الاختلاف وغيرها، ويمكننا فهم هذا الفعل من خلال مثال تسلط الكنيسة في القرون الوسطى أو مثال الدولة العثمانية، التي اكتسبت شرعيتها ووجودها بالصبغة الدينية (الخلافة)، وقد تدخل هذه اللعبة حقولاً أكثر تعقيداً من مثال الدول العثمانية، فقد تلجأ الجماعات أو الأفراد إلى نفس اللعبة، ولكن بتوجهين مختلفين، الأول منهما عن وعي والثاني الغير واعي، فالواعي يدرك تحقيق المصلحة الشخصية أو الجماعية، على أنها طريقة فعّالة مع إدراك جزئي أو كلي من كونها تخدم الفرد أو الجماعة بالدين، أما الغير واعية فهي الاعتقاد بأنها تطبيق للأمر الإلهي، وهي بذلك تخدم الدين بالفرد أو الجماعة، فالتعامل مع الفعل السياسي بصبغة دينية يكمن خلفه السعي للسلطة، لأغراض يعتقدها الفاعل (مرضاة الله)، وبالأخص أن الدين يمثل أداة تعرف بها شرعية الأمور، فهو بذلك يُكسب الفعل السياسي لا شرعية فقط، بل قداسة تستوجب دفع (المؤمنين) بهذه الإيديولوجية أو تلك، إلى الوقوف معها في خندق واحدٍ، أو موت جماعي دفعة واحدة، كتعبئة انتحاري (دون أجرة) يعتقد أنه في سبيل الله، بفتوى يصدرها جهاز السلطة الديني، وذلك تحقيقاً لما يراه الفرد أو الجماعة أو كلاهما أنه مراد الشريعة.

 

هنا تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الدين الذي أتعامل معه مفهوم أكثر سعة من توصيف الكلمة، فقد تحول مفهوم الدين في هذه الورقة إلى مصطلح، يكون فيه بمعنى (أيديولوجية سواء سماوية أو وضعية)، تعمل عمل الدين وتحل محله، وهي بذلك لا تخرج عن احتمالاته ونتائجه.

 

قبل الانتهاء من الزوجة الأولى آو الإمكان الأول، يصور البعض على أن القيم نتاج ديني بحت، وهي بذلك توصم الفعل السياسي باحتياجه لتسديد ديني، لأنه بدونه لا يحمل قيم يمكنه من خلالها أن يدرك (المصلحة العامة)، وهنا يقترح علينا سؤال فرض نفسه، ألا يمكن للعقل الإنساني أن يوجد قيماً له؟!، في حين أنه أوجد أنظمة للعالم، وذلك بالأخذ أو عدم الأخذ بالرسالات، لكن البعض ينطلق من ضرورة الدين في كونه موجهاً للميل والسلوك الإنساني، أو للتخفيف من ميل ولجم ميل آخر لا يراه الدين، ولعل الحكم الذي يستبطن الادعاء على كون القيم نتاج ديني هو عدم نجاح مشروع الفلاسفة والمفكرين في وضع قيم للإنسان، وهو أي الادعاء يفرض إمكانية وضع قيم إنسانية من قبل الإنسان نفسه، قد يوعز البعض أسباب ذلك للدافع الفطري أو ما يطلق عليه (المصلحة العامة)، ولكن الناظر إلى الجهة المعاكسة تماماً يدرك أن القيم الدينية لم تنجح هي أيضاً، وذلك ما استلزمته الخطة الإلهية من بعث الأنبياء والمصلحين، لرقي المجتمع الإنساني، ولعلنا في استطراد سريع ندرك أن الادعاء من كون الدين هو المنتج الوحيد للقيم، وقد يكون ذلك ما خلق المتداول الجماعي من كون (السياسة نجاسة)، وهو متداول يستخدم الرمز الديني في وصف ما يقابل الطهارة، وهو متداول يرمي لكون السياسة لا تخضع للقيمة الأخلاقية، قد يرجعها البعض إلى خلل في التطبيق، أو إلى ذاتية خلل في السياسة نفسها.

 

أما الزوجة الثانية وهي تغليب الديني في الحقل السياسي، وهي نظرة مفادها أن السياسة آلة لتحقيق المشروع الديني ليس إلا، وهي خاضعة له، أخذها لبيت الطاعة الأبدية بكامل قواها الجسدية، ويبدو أن المشرع الديني استنبط هذا التغليب من قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، ولكن اختلف المشرع الإسلامي في التفاصيل، لذلك أخذت الفرق الدينية الإسلامية قرائنا للتأويل، أو جر نتائج التأويل مسبقاً لخدمة مصالحها، على العموم فإن مثال تغليب الديني في الحقل السياسي كان واضحاً في دولة الرسول محمد »ص«، وسواء كان هذا الرئيس لهذه الدولة معصوماً أو غير معصوم من الخطأ، فإن الفرقاء لم يختلفوا في كونه مؤيداً من السماء، وهذا الأمر الغير وارد في غيره، ولذلك تسلل خطر قياس السياسة بالدين إلى المشروع، فهذا الخطر يكمن في كونه يدفع إلى نظام ديني شمولي، يرجم ويكفر ويعلن الردة على الأفراد، سواء في دائرته أو خارجها، لكونه هذا المستنبط لم يحصل على عدة فهم إدارة جهاز الدولة، في حين يمضي في إصراره على إدراكه الكلي، الذي يعتقد أنه يستمد شموليته من شمولية إيديولوجيته، وهو يقمع ويصادر بذلك حرية تعبد الفرد أمام ربه.

 

أما الزوجة الشابة الثالثة هي الفصل بين السياسي والديني، وهو أمر معاصر، تكاد الدول تمضي عليه مع سابق إصرار وترصد، أو دون ذلك، وقد يقوم عمل عزل الدين عن شؤون الدولة أو السياسة لأسباب، منها ضعف هذا الدين أو ضعف المطبق لمفاهيمه، أو لاقتصاره على الأعمال التعبدية المنحصرة في العمل الروحي بين العبد وربه، هذا ما أنتج دولاً تكون الغلبة فيها لصالح أفراد في موقع جغرافي على حساب أفراد آخرين في موقع مختلف.

 

أما الزوجة الرابعة والأخيرة التي لا يجوز الزواج بعدها إلا تمتعاً فهي التوفيق بين السياسي والديني أو عملية الدمج، ولعل هذه الوضعية التي يحصل فيها الالتباس بين السياسي والديني أو السياسي الديني، ولعل تحويل الفعل السياسي إلى فعل ديني يخلق مناخاً لا تتوافر فيه عناصر البحث الفكري الحر، فهو يجعل من الأمور تبدو من زاوية واحدة، كالناظر بعين واحدة، وهي زاوية الإيديولوجي الذي يعمل بها وتعمل فيه، أعتقد أنه آن الأوان لصناعة وخلق مفاهيم جديدة، تعيد النظر في ما يطلق عليه باسم (حزب إسلامي)، والذي قد ينتج من جعل الاختلاف صراعاً دينياً يجب أن تحشد له الأمة؟! ومن موقعي هذا أعلنت التوبة وسأطلق الزوجات الأربع.